عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم[1] أنه ذكر رجلًا، فقال: «لقد دخَل رجلٌ الجنة ما عَمِل خيرًا قطُّ، كان رجلٌ ممن كان قبلكم رَغَسه (أعطاه) الله مالًا وولدًا، أسْرَف على نفسه، يُسيء الظنَّ بعمله، لَم يَعمَل من الخَير شَيئًا قَطُّ إلاَّ التوحيد، وإنه لَبِث حتى ذهَب منه عُمر، وبَقِي عُمر، فعَلِم أنه لَم يَبْتَئِر (يدخِّر) عند الله خيرًا، فلمَّا حضرتْه الوفاة، دعا [أَوصَى] بَنِيه [أهله]، فقال: أيَّ أَبٍ تعلموني؟ قالوا: خَيْره يا أبانا؛ [أيُّ أَبٍ كنتُ لكم؟ قَالوا: خَيرَ أَبٍ]، فقال: فهل أنتم مُطيعي؟ قَالوا: نعم، قال: فإني لا أَدَعُ عند أحدٍ منكم مالًا هو مني إلاَّ أخذتُه منه، أو لتَفْعَلُنَّ ما آمركم، قال: فأخَذ منهم ميثاقًا وَرَبِّي، فإني لَم أعمل خيرًا قطُّ، فإذا أنا مِتُّ فخُذوني، فأحْرِقوني بالنار، حتى إذا كنتُ حممًا [فحمًا]، فدقُّوني [اطحنوني- اسحقوني- اهرسوني بالمِهرَاس]، ثم اذْرُوني: نصفي في البحر، ونصفي في البر، في يوم ريحٍ عاصفٍ؛ لعَلي أضلُّ اللهَ، فوالله لئن قدَر الله عليّ [لَم يغفر لي]، ليُعَذبني عذابًا لا يُعذِّبه أحدًا من خَلْقه، ففعَل أهله ذلك، فأمَر الله- عز وجل- الملائكة، فتلقَّت رُوحه، قال الله- عز وجل- لكلِّ شيء أخَذ منه شيئًا: أدِّ ما أخَذت، [فقال الله للأرض: أدِّي ما أخَذتِ- أمَرَ الله البر والبحر فجمَعاه]، قال الله: كنْ، فكان كأسرع من طَرْفة العين، فإذا هو في قَبضَة الله رجلٌ قائم، قال الله- عز وجل-: أي عبدي، ما حَمَلك على ما صنعتَ، قال: خشيتك يا ربِّ، [أو فَرَقًا منك]، [ما فعلتُ إلاَّ من مَخافتك]؛ فما تلافاه أن رَحِمه الله، فغَفَر له».
أوَّل ما نلحظ في هذا الحديث الجليل أنَّ هذا الرجل كان من أهل التوحيد؛ وإلا ما غفَر الله له.
عنده مال، عنده ولد، لكنه مُسرف، مسرف على نفسه في المعاصي والذنوب والآثام، وأساء الظنَّ بعمله، حتى رأى أنه لَم يعمل خيرًا قطُّ، ولَم يَدَّخِر عند الله خيرًا، ما الذي حَمَله على ذلك؟
جاء في بعض الروايات: أنه كان (نبَّاشًا)، يَنبش القبور فيَسرق الأكفان، وما قد يجد فيها من أمتعة قد يُوصي بعض الأموات بدفنها معهم، وهذا الفعل من أقبح أنواع الجرائم، فإن الإنسان إذا سرَق الأحياء، فهي جريمة بشعة وشنيعة، فكيف إذا سرَق الأموات؟!.
ومعنى ذلك: أن الخوف من الله والخوف من الموت، وتذكُّر الآخرة غائب عن ذهنه تمامًا، فإنَّ بعض الناس- وإن كان مسرفًا في المعاصي- إذا رأى جنازة أو ميِّتًا أو مَقبرة، خاف وارْتَدَع، أما الذي يُقْدِم على سرقة القبور، ويحفرها ويَنبشها؛ ليأخذَ ما فيها من الأكفان، فإنَّ هذا دليلٌ على قسوة القلب وغِلظته، وبُعده عن الله، وأنه لا يفكِّر في اليوم الآخر، ولا يخاف الله، ولا يرجو لقاءَه، وهذا العمل وأعمال أخرى- كما يبدو من ظاهر الروايات- تستحقُّ أن يُساءَ الظنُّ بها [2].
مع أنه لَم يكن يَسرق الجُثث، بل مجرَّد الكفن وما حوى من متاع إن وُجِد، وأساء بذلك الظنَّ في عمله، ورأى أنه لَم يعمل خيرًا قطُّ، فكيف بِمَن يسرقون جُثث الأموات نفسها؟! بل كيف بِمَن يسرقون أعضاء الأحياء، ويتَّجِرون فيها؟! كيف يكون حسابهم عند الله- جل جلاله؟!
فكَّر الرجل في مآله، وهو مَن ذهَب منه عُمر، وبَقِي عمر، كيف سيقف أمام الله يوم القيامة؟!
لَم يحتمل مشهد حسابه، أراد أن يَحتال على ذلك، لكن مَن يُعينه في هذه الحِيلة؟ إنه الولد، أبناؤه الذين ربَّاهم وكَدَّ وتَعِب، وأحسَن إليهم طيلة حياته، هم أوَّل مَلجأ له في مِحنته، وهم سنده في كُربته، وهكذا يكون كلُّ واحدٍ منا إذا طال به العُمر واشتدَّ به الأمر، أوَّل مَن يفكر فيهم من البشر هم أقربُ الناس إليه: وَلَده.
لكن كيف يُقنعهم؟ هل يُرَغِّبهم؟ أو يُرَهِّبهم؟ اختار الأمرين، وهذه قاعدة تربويَّة: لا الترغيب مُطلقًا، ولا الترهيب مطلقًا، بل الجمع بينهما.
الترغيب: قال: أيَّ أبٍ كنتُ لكم؟ قالوا: خَيْرَ أَبٍ، فقال: فهل أنتم مُطيعي؟ قالوا: نعم.
أبوهم يريد بذلك أن يستوثِقَ منهم، فكأنه يقول: مقابل إحساني إليكم وتربيتي لكم، وأُبُوَّتي الحانية عليكم... إلخ، أُريد منكم أن تُنْقذوني من عذاب الله.
الترهيب: قال: فإني لا أَدَعُ عند أحدٍ منكم مالًا هو مني إلاَّ أخذْتُه منه، أو لتفعلُنَّ ما آمركم، وأخَذ منهم ميثاقًا.
رُبَّما كان يُعينهم ويُقرضهم وقت شدائدهم المادية؛ لِمَا عنده من مال، فكأنه يُعفيهم من ديونهم شريطة تنفيذ أمره، ورُبما يقصد استردادَ أيِّ مالٍ أنفَقه عليهم.
ورُبما يقصد استرداد ما وهَبَهم من هدايا، ومعلوم أنَّ العائد في هِبته كالكلب يَقِيء، ثم يعود في قيئه؛ قال العلماء: إلاَّ الأب، فإنه يحلُّ له أن يعودَ في هِبته لأولاده، على سبيل التربية والتأديب لهم.
المهم أنه بهذين الأسلوبين، وبالميثاق والأيمان، ضَمِن أن وصيَّته ستُنَفَّذ:
فإني لَم أعمل خيرًا قطُّ، فإذا أنا مِتُّ فخذوني، فأحْرِقوني بالنار، حتى إذا كنتُ فحمًا، فدقُّوني، ثم اذروني: نصفي في البحر، ونصفي في البَرِّ، في يوم ريح عاصفٍ؛ لعَلِّي أَضلُّ اللهَ، فوالله لئن قدَر الله علي، ليُعذِّبني عذابًا لا يعذِّبه أحدًا من خَلقه، ففعَل أهله ذلك.
يا له من جهلٍ عميقٍ بالله- جل جلاله- وقع الرجل في خَطأَيْن:
1- يظن أنه لو بَقِي على هيئته، ووُضِع في القبر، فستكون إعادته سهلة، لكن إذا تفرَّق بهذا الشكل، فسوف يغيب ويتلاشى تمامًا، ولن يُبعثَ، ولن يُحاسب، ولن يُعاقب، فأساء الظنَّ في سَعة قُدرة الله.
2- كما أنه أساء الظنَّ في سَعة رحمة الله، وظنَّ مِن عِظَم ذنبه أنَّ الله لن يَغفر له!
فيقول لأبنائه: لابد من حيلة، فأعينوني على الخلاص من هذه المشكلة، وكان الحلُّ الذي تخيَّله وظنَّه هو هذه الوصية الجائرة التي رُبَّما لَم يقع مثلها في تاريخ الدنيا كلها.
نعم، وصية جائرة، أخطأ بنوه حين نفَّذوها؛ لأنها وصيَّة بمحرَّم، وهذا تنزيل لها على شرْعنا.
وقد استدلَّ أهل العلم على تحريم حرْق جُثة الميِّت بما أخرَجه أبو داود وابن ماجه وأحمد من حديث عائشة- رضي الله عنها- أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «كسْرُ عَظْم الميِّت ككسْره حيًّا»؛ قال الباجي في المنتقى: يريد أنَّ له من الحُرمة في حال موْته مثلما له منها حال حياته، وأنَّ كسْرَ عِظامه في حال موته يَحرم، كما يَحرم كسْرُها حال حياته، وإذا امتَنَع كسر عِظامه، فالإحراق أوْلَى بالتحريم. اهـ [3].
إذًا لَم يكن للولد أن ينفِّذ هذه الوصية، وشرط في الوصية ألاَّ يكون الموصَى به معصية أو محرَّمًا شرعًا؛ إذ القصد من الوصية تدارُك ما فات في حال الحياة من الإحسان، فلا يجوز أن يكون الموصى به معصية، كمن أوصى ببدعة في جنازته، أو بعد موته، أو أوصى بالنِّياحة عليه، أو أوْصَى بأيِّ أمرٍ محرَّم، فكلها وصايا باطلة، إنما تكون الوصية على جهة القُربة، أو في شيء مُباح فيما لا يزيد على ثُلُث التَّركة، لكن لا يَصِح تنفيذها في أمرٍ محرَّم، حتى لو كان قد أخَذ عليهم أوْثَق الأيمان وأغْلَظ المواثيق، يُكَفِّرون عن يمينهم، ولا يُنَفِّذون الوصية؛ حتى لا يشتركوا مع الموصِي في الإثم.
وما أن فعَل بنوه ذلك، حتى قال الله: كن، فكان كأسرع من طرْفة العين، فإذا هو في قبضة الله رجل قائم، قال الله- عز وجل-: أي عبدي، ما حَمَلك على ما صنعْتَ، قال: خشيتك يا ربِّ، أو فَرَقًا منك، ما فعلت إلاَّ من مَخافتكَ، فما تلافاه أن رَحِمه الله، فغَفر له.
يُحتمل أن ذلك حصَل بالفعل وانتهى، وربما يكون ذلك يوم القيامة، المهم أنَّ هذه قدرة الله تعالى؛ كما قال- سبحانه: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78- 79]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].
لا فرْقَ عند الله تعالى سواء بَقِي الإنسان على هيئته، أو سُحِق وطُحِن، أو أكَله السَّبُع، أو الحوت، أو رُمِي في أيِّ مكان! لماذا لَم يكفر هذا الرجل بمثل سوء الظن هذا في سَعة قدرة الله ورحمته؟ إنه كفر لَم يكن مقصودًا ولا معقودًا في القلب، وإنما من خوْفه من ربِّه- تبارك وتعالى- على ما جَنَت يداه من المعاصي والآثام، وليس كلُّ مَن وقَع في الكفر، وقَع الكفر عليه.
من شدة الخوف من العذاب حصَل له حالة من الذهول والدهشة واللاوعي، واستولَى عليه من الجزع والخشية ما أذْهَب لُبَّه، فكان كمَن غلَب عليه الفرح حين وَجَد راحلته، فقال: (اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك)، فلم يكفر.
قال شيخ الإسلام في الفتاوى: فغاية ما في هذا أنه كان رجلًا لَم يكن عالِمًا بجميع ما يستحقُّه الله من الصفات، وبتفصيل أنه القادر، وكثير من المؤمنين قد يَجهل مثل ذلك، فلا يكون كافرًا.
ذَنب وجَهل، ومع ذلك غَفَر الله له، لماذا؟ وبأيِّ عملٍ؟!
خشيتك يا ربِّ، ما فعلت إلاَّ من مَخافتك أوه، ألِهذه الدرجة تكون منزلة الخشية عند الله- جل جلاله؟!
نعم، قد كان له واعظٌ من نفسه يأتيه باللوم والندم، تلك هي النفس اللوَّامة التي أقسَمَ بها ربُّ العِزة- جلَّ جلاله، ونحن نقول: إنَّ المَهرَب من الله لا يكون إلاَّ إليه؛ {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50].
قال ابن القيم في المدارج: قال أبو عثمان: صِدْق الخوف هو الورع عن الآثام: ظاهرًا وباطنًا، وسَمِعت شيخ الإسلام ابن تيميَّة- قدَّس الله رُوحه- يقول: الخوف المحمود ما حَجَزك عن محارم الله.
فكلَّما كان الإنسان بالله أعرَف، كان منه أخوف؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]؛ قال ابن مسعود- رضِي الله عنه-: ليس العلم من كَثرَة الحديث، ولكنَّ العلمَ من الخَشيَة[4].
دَمعة في خشيةٍ سِتْرٌ لك من النار؛ «عينان لا تَمَسُّهما النار: عَين بَكَت من خَشيَة الله، وعين بَاتَت تَحرس في سبيل الله» [5].
دَمعَة في خَشيَة، محبوبة عند الله، «ليس شيء أحبَّ إلى الله من قَطرَتَين وأَثَرَين: قَطرَة من دموع في خَشيَة الله، وقَطرَة دَمٍ تُهْرَاق في سبيل الله، وأَمَّا الأَثَرَان: فأَثَر في سبيل الله، وأَثَر في فَريضَة من فرائض الله» [6].
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمةَ الحقِّ في الغضب والرِّضا، ونسألك القصْد في الفقر والغنى، ونسألك نعيمًا لا يَنفد، وقُرَّة عين لا تنقطع، وبردَ العيش بعد الموت، ونسألك النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضرَّاء مُضرَّة، ولا فتنة مُضِلَّة، اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلْنا هُداة مُهتدين.
--------------------------
[1] خُرِّج في الصحيحين، والمسند، وسنن النسائي، وشرح السُّنة؛ للبغوي، وسنن الدارمي، وصحيح ابن حِبَّان، عن أبي هريرة، وحذيفة، وبَهْز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه، وأبي سعيد الخُدري، وابن مسعود، ومعاوية، وما بين: [] فهي لفظ آخر للحديث، وما بين: () فهي زيادة توضيحيَّة للمعنى.
[2] من موقع الشيخ الحوالي.
[3] السابق.
[4] رواه الطبراني في المعجم الكبير (8534).
[5] رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني.
[6] رواه الترمذي، وحسَّنه الألباني.
الكاتب: مصطفى إبراهيم رسلان.
المصدر: موقع الألوكة.